الصحف والجرائد 🗞️

المدارس الرسمية للبيع!

كتب نعمة نعمة في “الأخبار”:

التعليم الرسمي مُستعمَر بحكم التبعية المالية الخارجية وغياب الرؤية الوطنية، هو مُستعمَر أيضاً من الأحزاب السياسية ومن المدارس الخاصة التي تفرض سياستها ونفوذها المستمد من الأحزاب والمؤسسات الدينية وكبار المتموّلين.

لا تمثّل الإجراءات التأديبية بحق رئيسة اللجنة الفاعلة للمدرّسين المتعاقدين في التعليم الأساسي الرسمي، نسرين شاهين، وغيرها من الأساتذة، عملاً إدارياً بحق موظف «متمرّد»، بل هي نهج تسلطي ينتهك أبسط الحقوق، ويتعدّاها إلى تدمير المدرسة الرسمية واستدعاء لأنواع جديدة من الاستعمار التربوي والسياسي والمالي، في وقت ينادي فيه ملايين التربويين حول العالم بتحرير التعليم من هذا الاستعمار، ويدعون إلى بناء استراتيجية تربوية وثقافة وطنية مبنية على التمويل الذاتي والرؤية المستقلة لهذا القطاع.

وهم العام الدراسي المستقر

حالياً، تنصبّ جهود وزارة التربية على فتح المدارس الرسمية بأي ثمن لتسويق نجاحها، من دون خطة واضحة ودراسة لواقع التعليم. ورغم أن ما أظهرته دراسة مشروع «كتابي» (مموّل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية) عن الفاقد التعليمي خطير جداً، إلا أن توصياتها يتم تضمينها في أي خطة تعويض مستقبلية أو خطة طوارئ للوزارة. وما أعلنه وزير التربية عباس الحلبي، في اجتماع نظّمه أخيراً في السراي الحكومي، حول إعداد خطة الإصلاح الشامل للقطاع، مجرد كلام فارغ من أي مضمون، وعناوين لم يشارك فيها أي من مديري المدارس أو الأساتذة أو مراكز الأبحاث أو الخبراء التربويين. هكذا، ستولد خطة جديدة كسابقاتها غير قابلة للتنفيذ وستُلحق أضراراً إضافية بالقطاع وتكرس التبعية بشكل أعمق.

وقد نجحت الوزارة في السنوات القليلة الماضية في تعميق هوّة اللاعدالة في التعليم بين فئات المجتمع، ولا سيما بين مستويات التعليم في المدارس الخاصة المعدّة للنخبة والمدارس الخاصة الأقل كلفة وما دون، وبين المدارس الرسمية والخاصة، وبين تعليم قبل الظهر وبعده، وبين المعلمين في القطاع الرسمي والمعلمين في القطاع الخاص الجيد و«دكاكين التعليم»، وبين التعليم المهني والتعليم العام، وبين الأستاذ المحظي بالحوافز بالدولار الأميركي و«المتمرد» المحروم منها. وتعدّى عدد المتسرّبين في التعليم الرسمي عشرات الآلاف، التحق بعضهم بالمدارس ولم يحضروا إلى الصفوف.

استرضاء الدول المانحة

منذ 2010، تنفذ الوزارة خططاً مشتركة مع الجهات المانحة واليونيسف، تنتهي إلى نتائج هزيلة، رغم تدفق أموال الهبات والقروض والمساعدات العينية بمليارات الدولارات، عدا موازنة وزارة التربية وإنفاقها السنوي على القطاعين الرسمي والخاص، والذي يصل إلى عشرات المليارات. والحصيلة خسارة لبنان لموقعه التعليمي من رأس قائمة الدول العربية عام 2007 إلى أسفلها عام 2018. فالتقارير الدولية التي تنشرها المنظمات الأممية حول التعليم تشير بوضوح إلى أزمة متنامية في مخرجات البرامج المشتركة (التطوير المدرسي 1 و2، التعليم الشامل 1 و2، دراستي 1 و2 وكتابي 1 و2، والخطة الطارئة والخطة الخمسية وغيرها). وفي كل مرة تطرح الجهات المانحة برنامجاً تكرر فيه أهدافاً ومضامين مشابهة، كونها لم تتحقق في البرامج السابقة، ولا تشذّ خطة الإصلاح الشامل عن القاعدة. في عام 1997، مثلاً، لحظ قانون المناهج إعادة الهيكلة لقطاع التعليم ولم تنفّذ، وغالبية البرامج المذكورة كانت قائمة على 3 ركائز لم تتحقق هي: تأمين حق الوصول إلى التعليم، جودة التعليم وتعزيز الإدارة والحوكمة والشفافية.

إذاً لا تعدو الخطة الجديدة للإصلاح الشامل كونها نسخة متكررة للبرامج السابقة. واللافت أن الدول المانحة تعلم هذا الأمر، وذكرته في تقاريرها السنوية، وهي، بحكم التعامل الدبلوماسي، ملتزمة بالتعامل مع سلطة تعد ولا تفي لمصلحة الطفولة والتعليم، فتعيد تجارب البرامج المشتركة معها، وإن كانت متيقّنة أن فعالية الإنفاق على التعليم متدنية.

ستهب الحكومة الألمانية مجدداً 290 مليون دولار، وسيكون مشروع الدمج التعليمي بين الوزارة والسفارة البريطانية مموّلاً أيضاً، وسيدفع مشروع «كتابي – 3» للدعم النفسي الاجتماعي 100 مليون دولار وغيرها من المشاريع، في وقت تعجز فيه الوزارة عن ضمان انتظام العام الدراسي المقبل، بسبب سوء الإدارة وغياب الرؤية والاستراتيجية.

في عهد الحلبي، تتفادى الوزارة اتباع الآليات الدستورية. فالوزير لا يقترح قوانين ولا يوقّع اتفاقيات تحتاج إلى مراسيم حكومية، وتتجاوز تدابيره العقابية بحق «المتمردين» التفتيش التربوي، إذ يجري تحقيقات داخلية بشأن المخالفات، ولا يحتاج إلى ديوان المحاسبة في الرقابة المسبقة أو المتأخرة، ولا يكترث لتقاريره.

اعتمد الحلبي الصندوق الائتماني TREF الذي فرضته الجهات المانحة لتمويل مدارس بعد الظهر تحديداً، فتحرر من أي رقابة نظامية. التسوية الرقابية، من خلال الصندوق الائتماني، لا تعني حل مشكلة عالقة بل تعني سوء إدارة الوزارة وعدم أهلية فريقها المالي والإداري، إذ تلجأ إلى شركة تدقيق خاصة عوضاً من ديوان المحاسبة أو التفتيش التربوي لمراقبة الحضور والأداء الوظيفي للمعلمين والإدارة التربوية والإدارة المركزية، وصولاً إلى التحرر نهائياً من الهيئات الرقابية، في خرق مقصود لتشويه النظام العام في الوزارة.

وكانت وزارة التربية عدّلت مفهوم الوظيفة العامة إلى التعاقد اليومي من خلال إدخال مصطلح جديد (بدل الإنتاجية أو الحضور) من خارج أي سياق قانوني، ويتم استخدامه كأداة عقابية بحق المعترضين، فيحجب ويوزّع غب الطلب. ويمكن أن نلاحظ امتعاض الغالبية الكبرى من المعلمين والأساتذة الثانويين والمتعاقدين وأساتذة المهني الذين عبّروا عن ذلك بالإضراب والامتناع عن التعليم، والعزوف عن مراقبة الامتحانات الرسمية لهذا العام. وسمعنا المدير العام للتربية، عماد الأشقر، يتوعّد المدارس الخاصة في جبل لبنان وبيروت، بهدف الضغط لإلحاق معلمي القطاع الخاص بمراقبة الامتحانات لأن زملاءهم في الرسمي ممتنعون عن المشاركة، وذلك في رسالة واضحة يقول فيها إنه يمكن الاستغناء عن معلمي الملاك واستبدالهم بالمتعاقدين الخاضعين لتوجيهات الوزارة وبمعلمي القطاع الخاص.

على مستوى الممارسة، لا يخضع وزير التربية للهيئات التشريعية والرقابية، فلا يستجيب مثلاً لكتب النائبة حليمة قعقور من أجل نشر تقارير مصارفات وزارة التربية المالية وللقانون العام، وهو يسعى إلى التقليل من حالات الاعتراض على أدائه إما بالتدابير العقابية أو بالتهرب من الهيئات الرقابية، ويتستر بالتشاركية مع مؤيديه حصراً، ويتعمّد الخروج على النظام العام للقطاع التربوي. وهو مرتهن شكلاً في مشاريعه للجهات المانحة وتوجيهات اليونسكو وبرامجها، لكنه لا ينفذها ولا ينفّذ غيرها، ويفتقر للرؤية. إذ أن أي وزير عتيد يحمل رؤية للتعليم في لبنان سيُبطل كل هذه البرامج ويعيد انتظام القطاع برؤية اجتماعية تنموية شاملة متعددة الأبعاد.

ماذا بقي من التعليم الرسمي؟ لا قوانين محترمة ولا أجهزة رقابية تؤدي دورها، ولا فعالية إدارية، ولا تمويل وطنياً للتعليم، ولا تعاميم للوزير تنفذها المدارس الخاصة ولا تلامذة في المدارس الرسمية، ولا معلمين/ات من ذوي الكفاءة يقوون على الصمود. لم يبق شيء من هيكل التعليم، الذي أصبح معروضاً للبيع للجمعيات لتعطي دروساً مموّلة للتعويض في بعض المناطق، وجمعيات أخرى مموّلة من اليونيسف لمدارس غير نظامية، وكل من يدفع يحصل على حصة!

التعليم في لبنان سيسقط قريباً ما لم يتم استدراك حجم التشوّهات التي نعيشها اليوم. وهذه أمور تحتاج إلى مساءلة ومحاكمة المسؤولين عنها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى