غزاة يجمّون الأخضر واليابس… البترون بلا زيتون؟
كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
مساكين نحن، متروكون لأمرنا، لمصائبٍ تسقط على رؤوسنا أقسى من خبطات الصخور وزلازل الأرض، محطمة آخر الآمال ببلدٍ يُشبه لبنان الذي غنّاه كبار. كل شيء ينتهي حتى الثروة الحرجية، التي كنا نتباهى بها، الى أفول. هنا البترون، هنا البترون التي كانت جميلة، تصرخ: إنهم يبيدون أحراجنا. فهل من يسمع؟ لا نراهن كثيراً لكننا لن نستسلم.
تكلمنا مع كل فاعليات البترون، و99،999 منهم تمنوا عدم ذكر أسمائهم فالبلد مفتوح على فوضى وأرواحهم «بالدق». الناس باتوا يخافون من ظلهم. الناس يعرفون أنهم في زمن أسود قاتم الحق فيه في خبر كان والفوضى فيه هي كل الخبر اليوم. والمعتدون يضحكون. من يعتدون على اراضي البترون يضحكون في العلن مرددين أمام من يشتكي: وكيف يؤكل اللحم المشوي إذا لم نقطع نحن الشجر؟ وإذا أصرّ يعتدون عليه.
بلال ماضي، إبن بلدة بشتودار في البترون وهو من الطائفة السنية، وهذا في حدّ ذاته جيّد، لا بل جيّد جداً، لأن من اعتدوا عليه وحطموا واجهة منزلة هم ينتمون ايضا لنفس الطائفة السنيّة الكريمة، اتوا من عكار والضنية وقضوا على الأشجار في الأراضي المحيطة. هما بالتحديد من آل زانوب يعيثان في الأراضي، منذ فترة، خراباً. القصة إذاً ليست طائفية بل بيئية بحت. بلال اتهم بأنه صوّر العابثين. لن ندخل في تفاصيل من صوّر لكن الخراب تمّ – يتمّ – فماذا في التفاصيل؟
المرجعيات تراقب. البلديات تراقب. المخاتير يراقبون. الناشطون والمحامون والتنوريون بأسرهم يتابعون. الهموم طبعاً كثيرة لكن للشجرة وللأحراج همومها أيضاً. رئيسة دائرة التنمية والثروات الطبيعية في مصلحة الزراعة في الشمال هي المهندسة رانيا وردان. وقائمقام البترون هو روجيه طوبيا و…و… الأسماء التي يتداول بها الأهالي والفاعليات كثيرة وعلى ألسنتها كلّها تتردد نفس الكلمات: «يجمّ الأغراب الأراضي تحت ستار رخص تشحيل». الكنيسة والأديرة في المنطقة لها أيضاً دورها في الإعراب «فدير مار يعقوب لحقه التشحيل ومثله دير ماريوسف جربتا». فأين الكنيسة؟ سألنا رئيس دير مار يعقوب في بشتودار الأب أسعد بو فضول. قلنا له فاعليات كثيرة تقول إن الدير هو من وظّف عمالاً من خارج البترون وهو شاهد على تحويل الأرض يباباً فأجاب: «ما يحصل هو على حدود أرض الدير لا فيها. هناك أشخاص يشحّلون الأرض فـ»علقوا» – تشاجروا – بين بعضهم البعض. حضرت «المعلومات» وانتهى الموضوع. وهناك من اعتقد أن الأمر حصل ضمن أراضي الدير. هذا غير صحيح. نحن حصلنا على رخصة بتشحيل الأرض من وزارة الزراعة في طرابلس ولدينا عامل يمشي معهم خطوة خطوة. تحدث أخطاء؟ لا أحد ينكر ذلك. لكني مطمئن الى أن لا خوف على اشجار السنديان التي تعود وتنمو بسرعة شرط أن لا يقطعوها من جذورها. هناك من يقسو على الطبيعة؟ أجزم بذلك لكن ليس في أراضي الدير» ويستطرد «البلد على بركان ويوجد مأمور أحراج، إسمه مارون عبود، يقوم بدوره».
الأرض التي شملها التصحّر ليست في دير مار يعقوب. رئيس الدير قال ذلك. لكن كثيرين قالوا بلى. ماذا عن دير مار يوسف جربتا؟ رئيس الدير هو الأب ميشال ليان وهو يقف يومياً عند تخوم ضريح القديسة رفقا ويراقب الطبيعة، بلونها الأخضر، التي تتقلص يوما بعد يوم. يقول: «ما يحصل إجرام بحقّ الطبيعة. حصلت تعديات على أراضي الدير التي تتبع لراهبات جربتا لكننا أوقفناهم. إقتطعوا مساحات من الأشجار لكننا، في الآخر، نهيناهم عن الأمر. تكلمنا مع وزارة البيئة في الموضوع. والتعديات تستمرّ اليوم لكن خارج أراضي الدير. ويستطرد: توجهتُ مراراً الى هؤلاء طالبا منهم عدم قطع الأشجار بالقسوة التي يعتمدونها وهناك من قالوا لي بالحرف: ما هي علاقتك في الموضوع؟ هناك إجرام يحدث في وادي جربتا».
هناك كهنة وفاعليات وأهالٍ يواجهون لكن هناك من يعدهم وفي الآخر «إقرأ تفرح جرّب تحزن». ما يهم البترون اليوم هو وقف التعديات وما يهم المعتدين، الذين يقولون إنهم يحوزون رخص تشحيل، أن ينتهوا من قطع أكبر كمية من الأشجار قبل الخامس عشر من نيسان، وتحديدا قبل انتهاء مفاعيل تلك الرخص. إنهم يعملون تحت ستار قانوني، في الشكل، لكنهم يقتلعون واقعياً كل ما يرونه أمامهم. وهذا هو لبّ المشكلة.
ماذا عن نائب المنطقة – رئيس لجنة البيئة النيابية غياث يزبك؟ كيف يتابع أخبار نحر البيئة في البترون (وفي سواها)؟ الرجل، بطبيعته، يعشق البيئة ويٌقاتل من أجل البساط الأخضر، فكيف إذا كان نائباً ورئيساً للجنة البيئية أيضاً. هو يميّز بين التشحيل المطلوب وبين القطع الجائر الحاصل «فأجدادنا كانوا يشحلون الأراضي» ويقول: «أول البارحة، خلال إجتماع اللجنة البيئية، طلبت من وزيري البيئة والزراعة رفع التعديات عن الطبيعة والمواطنين وأن تتحرك النيابات العامة بقسوة في الموضوع».
وصّف نائب البترون القضية من الألف الى الياء ورفعها الى وزير الزراعة بالتحديد، الذي يمنح رخص التشحيل، وأخبره أن من يُعطى رخصة تحطيب مئة متر يُحطب ألف متر، ويتجاوز الأرض المسموح بها الى الأراضي المجاورة وطلب منه «ضرب الغرامة بأضعاف مضاعفة ليدرك من يقومون بجمّ الأراضي أن المنطقة غير سائبة» يضيف يزبك «ما يحصل اليوم هو تواطؤ بين أكثر من جهة والمطلوب، وبسرعة، جملة مسائل بينها: التشدد من النيابات العامة وزيادة عدد نواطير الأحراج – بغض النظر عن كل الإعتبارات الطائفية – الذين عليهم أن يتأكدوا من طبيعة العمل بالرخصة، كما مطلوب التشدد بالعقوبات والغرامات المادية، كون من يخالف يعتبر أن كعبي شجرتين تكفيان لتسديد الغرامة أما بقية غلة الكميون فربح صاف له».
نائب البترون يتابع الملف. رئيس هيئة الطوارئ الشعبية في بلاد البترون المحامي حنا البيطار لا يهدأ هو ايضا في الكلام والتكرار. هو لا يقبل الخطأ وكل ما يراه خطأ ويقول «هناك كثيرون يقولون لي: نزّل عن كتفيك، لكني لا أستطيع ذلك. مؤسف ما نراه. كيف يسمحون لشخص يأتي من منطقة بعيدة ويهدد إبن منطقة تنورين؟ إنها ظاهرة تنتشر. بلال ماضي تمّ الإعتداء عليه في البترون. هناك مجزرة بيئية تحصل. أراض تابعة للأبرشية المارونية في البترون، وللرهبنة المارونية، يُعتدى عليها».
تُعطى الرخص لتشحيل الأرض عادة من وزارة الزراعة في بيروت، وإذا كانت قطعة الأرض صغيرة تعطى الرخصة من الزراعة في طرابلس ويقول البيطار: «البلديات لا تقوم بواجباتها وهناك مخاتير لا يقومون أيضا بواجباتهم. ونحن، هيئة الطوارئ الشعبية، حركة مطلبية لا إجرائية». ويستطرد: «يُحاكم المعتدي إذا نفذ محضر ضبط به بجرم جزائي، جنحة، ويحال – أو يفترض أن يحال- الى القاضي المنفرد، ويُغرّم بمبلغ مالي يناسب الفعل وقد يصل الى السجن ثلاث سنوات، لكن ما يحصل أن من يتم توقيفه يُطلق سراحه بعد أسبوع أو اثنين».
الكلّ، نعم الكلّ الكلّ، يتذمرون. وهناك من يقول إنه حتى المهندسة رانيا وردان- رئيسة دائرة التنمية والثروات الطبيعية في مصلحة الزراعة في الشمال – حين تطلب من أحد المراقبين الإنتقال الى موقع معين يعود بصور عن موقعٍ آخر. ويحدث ذلك غالباً عن قصد وليس عن سهو. هي، على ما يُنقل عنها، قامت بما تستطيع وتحاول منع ما تستطيع من المخالفات لكن الضغوط كثيرة والفساد في الإدارة كبير.
البلدات البترونية بغالبيتها تحت وقع الأزمات المتمادية ولم يكن ينقصها إلا «جمّ» أراضيها عن «أبو جنب». في محمرش، الوضع ليس أفضل حالاً. تريدون دليلاً؟ الأرض التي اشتراها الشاعر إيليا أبو شديد في ثمانينات القرن الماضي في البلدة، ومساحتها أكثر من ثمانين ألف متر، وانتقلت الى ورثته من بعده، أصبحت جرداء. لا شجر زيتون فيها حتى. قضى من اقتحموا الأرض بحجة التشحيل على كل ما فيها من سنديان وزيتون. إنتهى هؤلاء من البلدة بعدما «شفطوا» ثروتها الحرجية وانتقلوا الى مارماما والدوق… إبن الضنيه لا تفرق معه الثروة الحرجية في البترون. وهناك أهالٍ من البترون يضمنون أراضيهم الى أشخاص، تحت حجج كثيرة، لتنظيفها ولا يتابعون شخصياً ما يحدث – وما قد يحدث – فيها. ثمة أشجار زيتون عمرها أكثر من مئتي عام قبعت بحجة التشحيل. ولكم أن تتصوروا حجم المجزرة.
يتردد في البترون اسم محمد حامد. هو مراقب أحراج في سرايا البترون لكنه لم يسطّر منذ زمن أي محضر ضبط. ثمة أخطاء تحصل في البترون، من قلب البترون، وهناك من يقتحمون البترون تحت ألف ستار وستار. وقد لا يلتقي بترونيان هذه الأيام إلا وتكون أخبار «جمّ» الثروة الحرجية فيها ثالثهما.
هناك مخطط توجيهي شمل بلدات بترونية كثيرة، بينها بلدة بشتودار، اعتبرت بمثابة محميات، ممنوع قطع الشجر فيها. هو مخطط. وجميعنا يعلم للأسف مصير- وخواتيم – المخططات. في كل ذلك، قائمقامية البترون توقفت منذ مدة عن إعطاء موافقات تشحيل وهي العارفة أن لا أحد موجوداً ليراقب سير الرخص. وبالتالي كل الرخص المعطاة بترخيص من وزارة الزراعة. في هذا الإطار، لا يوجد في البترون والكورة إلا مأموران اثنان للأحراج فكيف يمكنهما التأكد من طبيعة الأعمال التي تحصل؟ هناك أمر آخر، الأهالي لا يتابعون مسار ما يحصل في أراضيهم غالباً بعد تضمينها. ولا أحد يبالي- أو كان يبالي – بما يفعله «الجناة». أهالي البترون إذا يتحملون بعض الذنب وانكفاء الدولة – أو لنقل إهتراءها – هو المذنب الرئيس. وفي كل الأحوال، لكم أن تتصوروا البترون جرداء صحراء؟ إنه الزمن البائس.