الإحتباس الحراري يدهم العالَم ولبنان: “الغَليان” الحتمي؟
نسمع ونقرأ الكثير. تحذير تلو الآخر. لكن ثمة بيننا من يشكّكون. الظواهر التي تملأ مَشاهدها الشاشات تشي بأن شيئاً مناخياً ما في طور الإنقلاب رأساً على عقب. الأمين العام للأمم المتحدة، السيّد غوتيريش، يدعو إلى اتخاذ إجراءات فورية، مؤكداً الإنتقال من مرحلة “الإحترار” إلى مرحلة “الغَليان” العالمي. فمعدّلات درجات الحرارة سجّلت أرقاماً قياسية في تموز الماضي بزيادة 5 درجات عما هو “طبيعي” – 45 درجة مئوية هو ما بلغته، مثلاً، في حوض المتوسط. ولبنان ليس استثناء.
التغيّر المناخي هاجسُ الهواجس. يُعرّفه أصحاب الاختصاص بالتغيّر الملحوظ في الحالة السائدة لإحدى أو لكل معدّلات وآليات المعايير الجوية، لتشمل مساحات شاسعة من الأرض ولفترة زمنية طويلة نسبياً لا تقلّ عن عشرات السنين. نتحدّث هنا عن الهاطل المطري ودرجات الحرارة والعناصر المناخية الأخرى. التداعيات لا، ولن، تعترف بحدود. فكافة القطاعات بدأت تعاني، وإن كان أبرزها المياه والزراعة. ليس للبنان، غير الصناعي وصغير المساحة، دور في التغيّر الحاصل عالمياً. إلّا أن ما ينتج عنه من انبعاثات حرارية وأبخرة وملوّثات متطايرة وحرائق غابات، ينعكس سلباً ضمن نطاقه الجغرافي، خصوصاً بغياب الضوابط البيئية اللازمة وتدابير التكيّف – الفردية والخجولة – مع هذا التغيّر.
أيادٍ طبيعية – بشرية
نودّ أن نسمع المزيد. ونتواصل مع الباحث العلمي المتخصص في إدارة الموارد المائية وعلوم الهيدرولوجيا ومدير أبحاث في المجلس الوطني للبحوث العلمية، الدكتور أمين شعبان. يستهلّ حديثه مع “نداء الوطن” بالقول إن التغيّر المناخي كان، حتى عقود قليلة مضت، مجرّد عملية فيزيائية يجرى الإتيان على ذكرها كباقي الظواهر التي تحدث على الكوكب. “لكن، منذ ما يقارب أربعة عقود، وتحديداً مع التطوّر الصناعي المطّرد وزيادة الاعتماد على التقنيات والأدوات التي تستخدم الوقود الأحفوري، بدأ الحديث عن الاحتباس الحراري. وترافق ذلك مع انبعاث غازات كثيفة، أهمّها غاز الميثان وثاني أكسيد الكربون، تعمل على تكوين سُحب، وبكُتل كبيرة حول الأرض، مشكّلة طبقة عازلة يتم احتجاز الأبخرة والحرارة المنبعثة من الأرض ضمنها”.
لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى وجود مؤثّرات طبيعية تعمل بدورها على إحداث تغيّر في النمط المناخي، منها الغازات المنبعثة من البراكين، خصوصاً ثاني أكسيد الكبريت وثاني أكسيد الكربون البركاني. أما التيارات البحرية، حيث تمتص المحيطات كمية من حرارة الشمس، فتعمل على اندفاع كُتل حرارية إلى مناطق محدّدة من اليابسة، ما يُعرف بظاهرة النينو (El Nino). ويضيف شعبان: “لهذه الأسباب، نشهد ارتفاعاً في درجات حرارة الأرض وزيادة معدّل تبخّر مياه البحار والمحيطات، ما ترتّب عنه تكثيف للغيوم المطيرة أو ما يُسمّى بالأمطار السيلية (Torrential rain) التي تهطل غزيرة في فترات زمنية قصيرة. وقد جرى تقدير الزيادة في المعدّل العام لدرجات الحرارة بدرجة واحدة ما بين العامين 1900-2000، ويُتوقع أن تبلغ حوالى 5 درجات بين العامين 2000 و2100”.
النتيجة واحدة
الدول الصناعية هي المسؤولة الرئيسة عن الانبعاثات الحرارية. لكن النامية منها تأتي في طليعة دافعي الثمن. لكن عن الجدل القائم حول حقيقة ظاهرة التغيّر المناخي وآليات حدوثها، يوضح شعبان: “يتناقض العلماء بين وجود التغيّر المناخي (Climate change) كعملية واقعة واعتباره تقلّبات مناخية (Climatic variability) ليس إلّا. ويجزم البعض أن ما نشهده جزء من دورة مناخية (Climatic cycle) طبيعية تحدث منذ ملايين السنين، وقد تمّ إثبات ذلك في العديد من الدراسات البحثية”.
أيّاً كان السبب، فالنتيجة واحدة وواضحة للعيان. درجات الحرارة ترتفع، معدّلات الهاطل المطري تتذبذب صعوداً ونزولاً، وأحداث المناخ المتطرّف (Extreme climate) ومعدّل الوميض الشمسي – ذات التأثير البالغ على المكوّنات الحيوية – يتفاقمان. “المناخ المتطرّف تطال آثاره مناطق عدّة حول العالم حيث نشهد فيضانات وسيولاً جارفة. وهناك العواصف المطرية والثلجية والرملية. أما ازدياد الوميض الشمسي، فَلَه أثر هائل على عمليات التبخّر من الأجسام المائية السطحية مثل البحيرات والمسطّحات المائية، كما على الذوبان السريع للثلوج”، والكلام لشعبان.
مناخ لبنان يتغيّر
نركّز أكثر على لبنان. شعبان يذكّر بأن البيانات المناخية لدينا لا تزال غير كافية لبناء الاتجاهات الإحصائية اللازمة. “تقوم مؤسسات معنيّة بالمناخ ببناء هذه المحطات لكن التنسيق وتبادُل البيانات شبه غائبين بين المؤسسات المختلفة. حتى أن الدراسات التي يُعمل عليها غالباً ما تخلص إلى نتائج غير متطابقة. مع العلم أن المجلس الوطني للبحوث العلمية، ومن خلال المركز الوطني للاستشعار التابع له، قام بوَضع قاعدة بيانات مناخية ارتكازاً على السجلات المناخية المتاحة والصوَر الفضائية، الحديثة منها والقديمة، كما بنى بعض المحطات لتسجيل المعايير المناخية التي لم يتمّ قياسها سابقاً مثل الناتج المائي من الثلج (Snow-water equivalent)”.
على أي حال، التبدّلات المناخية حاصلة في بلاد الأرز بتأكيد من المجلس الوطني للبحوث العلمية، وتشمل: ازدياد ملحوظ في درجات الحرارة يُقدَّر ما بين 1.6 و1.8 درجة مئوية آخر 50 عاماً، تزامناً مع زيادة مفرطة في درجات الحرارة المرتفعة نهاراً يقابلها انخفاض مفرط ليلاً؛ تزايُد وتيرة الأمطار السيلية التي تتسبّب بفيض مائي يؤدّي إلى تقليل رشح المياه إلى باطن الأرض وتغذية أقلّ للمياه الجوفية؛ إزاحة ملحوظة في توقيت الفصول الأربعة حيث تحلّ قبل أو بعد مواعيدها المعتادة، ما يؤثّر على نوعية وكمية الإنتاج الزراعي.
… وقطاع المياه يستنجد
الانعكاسات الفعلية لهذه التغيّرات على قطاع المياه يوجزها شعبان بتناقص معدّلات الضخ في الأنهار والينابيع (مثل نهر ابراهيم ونهري الكلب والدامور) بنسبة تفوق 55 إلى 60% خلال العقود الخمسة الماضية. في حين أن تدفّق المياه في معظم الأنهار ينحصر ببضعة أشهر يقابلها جفاف ما يزيد عن 65% من الينابيع الصغيرة. أما مستوى المياه الجوفية في الخزانات الرئيسية (الخزان الجوفي التابع للعصرين الكريتاسي والجوراسي)، فانخفض بمعدّلات بلغت 25 و30 متراً، مع تراجع منسوب الضخ في الآبار بحوالى 20-30% مقارنة مع ما كانت عليه في العقود القليلة الماضية. وثمة عدد لا بأس به من الأراضي الرطبة (Wetlands) تعرّضت للجفاف أو لتشوّه مكوّنها الحيوي واضمحلاله (منطقة رأس الشكعة – البترون مثال على ذلك).
ومع البحيرات – وأبرزها بحيرة القرعون – نتابع. فعدا عن تعرّضها للتلوّث، انخفض منسوبها بشكل ملحوظ. وبحسب المجلس الوطني للبحوث العلمية، تسارعت وتيرة ذوبان الثلوج على قمم الجبال، حيث يُقدَّر تَقلُّص معدّل ذوبان الغطاء الثلجي من 3 أشهر ونصف إلى حوالى 40 يوماً، ما ينعكس سلباً على تغذية المياه الجوفية. أما زراعياً، فيشير شعبان إلى أن “النقص في كمية المياه طال بمفاعيله القطاع، حيث تقلّصت مساحة الأراضي الزراعية حوالى 30% منذ أوائل التسعينات وأصبح إنتاج العديد من المحاصيل غير متاحٍ خصوصاً إبان الفترات المناخية الحارة”. ولا يجب إغفال تأثير المناخ على إحداث تغيّرات ديموغرافية واسعة. الهجرة من الأرياف إلى المدن أبرز تجلّياتها، ما يشارك في خلق نماذج اقتصادية – اجتماعية جديدة تصعب إدارتها.
الزراعة والنبات… إلى أين؟
بالحديث عن التداعيات الزراعية، يذكّرنا مدير عام مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، الدكتور ميشال افرام، أنه بدأ يحذّر من التغيّر المناخي قبل 20 عاماً، يوم كان مدير كلّية الزراعة في جامعة القديس يوسف. وقتها، باشر بِوضع شبكة أرصاد جوية متطوّرة بتمويل فرنسي لِدرس التغيّر الحاصل ونقص المياه. وكان أول من أدخل الزراعة خارج التربة والزراعات المائية إلى لبنان. ثم بعد استلامه إدارة المصلحة، استطاع افرام الحصول على شبكة من 80 محطة أرصاد بتمويل من الاتحاد الأوروبي بهدف درس التغيّر المناخي وحركة الأمراض والحشرات. وبناء على تراكُم الخبرات، أكّد أنه يمكن الإشارة حالياً إلى “غَليان” – لا إلى “تغيّر” – مناخي. “نتحدث عن ارتفاع الحرارة بواقع 3 درجات مئوية في العام 2030، بينما كنّا نتكلم سابقاً عن 1.2 درجة، ما يعني أن الاحتباس الحراري أدّى الى ازدياد العوامل المناخية تطرّفاً على مستوى العالم”.
زراعياً، بحسب افرام، ثمة تأثُّر للمزروعات والنباتات البرية بالجفاف والحرارة المرتفعة ؛ تغيير في مواعيد الزرع والحصاد؛ تبدّل نوعية الإنتاج الزراعي؛ اختفاء مواسم زراعية كتلك الصيفية التي تحترق بسبب الحرارة؛ اختلاف في الإنتاج الزراعي الجبلي كالتفاح لقلّة الأيام الباردة؛ وأمطار متأخرة تؤثّر على إنتاج القمح. والحيوانات لم تسلم من التداعيات هي الأخرى، إذ لفت افرام: “هناك تبدّل في البيئة الحيوانية البحرية بسبب تغيّر درجات حرارة المياه، ما سمح لحيوانات البحر الأحمر بالدخول إلى المتوسط، ناهيك بتغيّر حركة الحيوانات والطيور المهاجرة”.
نسأل رئيس فرع الري والأرصاد الجوية في مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، الدكتور إيهاب جمعة، عن مدى تأثّر عالم النباتات بما يحصل، ونصغي إلى كلام عن تغيّر مواسم النمو الطبيعي للأزهار والثمار، كما الإنتاج، نتيجة