المطران الياس عوده بذكرى 4 آب: هل هذه هي العدالة؟
لفت متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، إلى أن “في بَلَدِنا كُلُّ جَماعَةٍ تَضَعُ ثِقَتَها في مَكانٍ مُحَدَّدٍ، إِلَّا في المَكانِ المُناسِب. لا نَجِدُ انتماءً واضِحاً لِلُبنانَ، وَطَنًا واحِدًا لِشَعْبٍ واحِدٍ، يَحْميهِ جَيشٌ واحِدٌ يَجْمَعُ الكُلَّ تَحْتَ رايَةِ الوَطَنِ الواحِد، هذا الجيشُ الذي، في مناسبةِ عيدِه، نسألُ اللهَ أن يَحميه قيادةً وأفراداً. كُلُّ جَماعَةٍ تخافُ غيرَها، الَّذي هُوَ شَريكُها في الوَطَن. بَلَدُنا تَشَرْذَمَ بِسَبَبِ غِيابِ المَحَبَّةِ، وعدمِ الإعترافِ بالآخَرِ المُخْتلِفِ والتواصُلِ معه خوفاً منه”.
وسأل في عظة قداس الأحد: “إلى متى سيبقى شعبُ لبنان شُعوباً؟ إلى متى سيبقى لبنانُ تحتَ وطأةِ الإختلافاتِ والإنقساماتِ والتبايُنِ في الآراء؟”.
وتابع: “بَعْدَ أَيَّامٍ قَليلَةٍ تَحِلُّ الذِّكْرى الثَّالِثَةُ لِلحَدَثِ الأَليمِ الدَّمَوِيِّ الَّذي أَصابَ قَلْبَ العاصِمَةِ بَيروت، فَقَتَلَ ودَمَّر وشَرَّدَ وهَجَّرَ. الرَّابِعُ مِنْ آب 2020 ذِكْرى لَنْ تَغيبَ عَنْ وجدانِ أَيِّ لُبْنانِيٍّ أَيْنَما حَلّ، فكيف بأبناءِ بيروت الذين دَفَعوا مِنْ أرواحِهم وفَلَذاتِ أكبادِهم وأملاكِهم ثَمَنَ جريمةٍ لا يَرتكبُها مَنْ في صدرِه قلبٌ لَحميٌّ يَنبُضُ بالإنسانية، أو مَنْ يَحمِلُ ضميراً واعياً يَدُلُّه على الخيرِ ويَردَعُه عَنْ كُلِّ شَرٍّ وأذى. سَتَبْقَى هَذِهِ الذِّكْرى شَوْكَةً تَنْخَزُ ضَمائِرَ المَسؤولينَ عَنها، الَّذينَ سَبَّبوها، والذين عَلِموا بإمكانيةِ حُدوثِها ولَمْ يَمْنَعوها، والَّذينَ لَمْ يتَحَرَّكوا بَعْدَ وُقوعِها، والَّذينَ وَعَدونا بِإِنْجازِ التَّحقيقِ في أَسْرَعِ وَقتٍ، وقد مَرَّتْ السَّنَواتُ ولا نَزالُ نَنْتَظِرُ على الأَطْلال”.
وأوضح أن “النَّاسَ تابَعوا حَياتَهم، لَكِنَّ ذَلِكَ لا يَعني أَنَّ شِفاءَ نُفوسِهِم وأَجسادِهِم وقُلوبِهِم قَدْ تَمّ. شَعْبُنا قَوِيٌّ، ويُقَدِّسُ الحَياة، لَكِنَّهُ في الوَقتِ نَفْسِهِ لا يَنسى أَحِبَّاءَهُ الَّذينَ فَقَدَهُم في لَحْظَةِ غَدْرٍ، عِنْدَما كانوا في أَمانِ مَنازِلِهِم، أَوْ في سَيَّاراتِهِم، أَو في مَراكِزِ عَمَلِهِم، كَالمُمَرِّضاتِ الباسِلاتِ اللَّواتي يَفْتَقِدُهُنّ مُسْتَشفى القِدِّيسِ جاورجيوس الجامِعِيُّ، وسِواهُنَّ مِنَ الأَبْطالِ الَّذينَ قَدَّموا أَرواحَهُم بِشَجاعةٍ، ونَخُصُّ بِالذِّكْرِ مِنهُم أَفْرادَ فَوجِ إِطفاءِ بَيروت. هَذا الشَّعبُ القَوِيُّ يُطالِبُ بِإِحْقاقِ الحَقِّ، وبِأَنْ تَأخُذَ العَدالَةُ مَجْراها، وتُرْفَعَ الحَصاناتُ لِيُحاسَبَ كُلُّ مُرْتَكِبٍ ومُهْمِلٍ، كائِنًا مَنْ كان، عَلَّ ذَلِكَ يَكونُ درساً لكلِّ مَنْ تُسوِّلُ له نَفْسُه ارتكابَ جريمةٍ مُماثلة، وخُطْوَةً تُبَرِّدُ قُلوبَ كُلِّ الَّذينَ خَسِروا أَحِبَّاءَهُم، ومُمْتَلَكاتِهِم، وجَنى أَعْمارِهِم، أو أُصيبوا في أجسادِهم. كلُّ هؤلاء ينتظرون استكمالَ التحقيقِ وكَشْفَ الحقيقةِ وإنزالَ العقابِ بِمَنْ أنزلَ بهم هذا الضررَ الجسيم. لكنَّ المُحزِنَ أنهم هم الذين يُعاقَبون إما بإعاقةِ التحقيقِ أو بإخفاءِ الحقيقةِ أو بإسكاتِهم وقَمْعِهم وملاحَقَتِهم”.
وأضاف عوده: “هل هذه هي العدالةُ التي يَطمحُ إليها كلُّ إنسان؟ هل هكذا تُعالَج جريمةٌ بحجمِ عاصمة؟ كيف يَشعرُ المواطنُ بالأمانِ بِلا قضاءٍ عادلٍ وبِلا مُحاسبةِ المُجرمين؟ هل يَجوزُ أنْ تَمُرَّ بِلا مُحاسَبَةٍ جريمةٌ دَمَّرَتْ العاصمةَ وأصابتْ الآلاف؟ حيثُ لا محاسبةَ لا أمانَ ولا انضباطَ ولا استقرار”.
وختم: “سوفَ نُصَلِّي اليَوْمَ مَعاً مِنْ أَجْلِ راحَةِ نَفْسِ كُلِّ مَنْ سَقَطَ ضَحِيَّةَ التَّفجيرِ الآثِم، ومِنْ أَجْلِ تَعزِيَةِ كُلِّ الَّذينَ تَأَذُّوا نَفْسًا وجَسَدًا. نُصلّي مِنْ أجلِ عاصِمَتِنا بيروت التي ما زالتْ تُلَملِمُ أشلاءَها، بيروت التي تَدفَعُ دائماً الثَمَنَ مع أبنائها، ولا ذَنبَ لها إلاّ أنّها العاصمةُ الجميلةُ، المحبوبَةُ مِنْ جميعِ مَنْ عَرَفَها، والمُضْطَهَدةُ مِنْ كُلِّ غاضِبٍ على الدولةِ، أو ثائرٍ على السياسيين، أو يائسٍ مِنْ الحالَةِ التي وَصَلْنا إليها. بيروت التي ما زالتْ تنتظِرُ المبادَراتِ الخاصةَ لإنارَةِ شوارعِها أو لإصلاحِ طُرُقِها أو لترميمِ منازلِها التي دمَّرَها الإنفجارُ، وما زالَ هناك مَنْ يَتَحَيَّنُ الفُرَصَ لشِرائِها وتَهجيرِ أهلِها. بيروت التي ما زالتْ تنتظِرُ العدالةَ وتتساءلُ أين التحقيقُ ولِمَ لَمْ يُسْتَكْمَلْ؟ بيروت التي، مَعَ تَمَسُّكِها بحَقِّها بمعرفَةِ الحقيقةِ وإنزالِ العقابِ بِمَنْ طعَنَ قلْبَها وقَهَرَ أبناءَها، تؤمِنُ بأنَّ عدالةَ السماءِ مهما تأخّرَتْ آتيةٌ لأن «لِيَ الإنتقامُ، أنا أجازي» يقولُ الربُّ القدير (عب 10: 30)”.