صرخة رضيعة داخل السجن… مشاهدات وروايات موجعة وراء قضبان “بعبدا للنساء
كتبت صبا سكرية في “النهار”:
“رح يبلشوا إضراب بالمحاكم؟”، قالت ديانا وقد بدت عليها علامات التوتّر الشديد، لتردّ عليها أماني: مين قال؟ ونزلت الدرج مهرولةً حتى وصلت إلى مكتب النقيبة وهي تكاد تبكي من اليأس، سألتها فلم تحظَ بردّ مباشر، صعدت إلى غرفة زميلاتها تائهة: “إن شاء الله ما يكون صحّ متل كل مرة”.
تعيش النزيلات في سجن بعبدا المركزي للنساء حالة من الضياع منذ بدء الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان. وتقول إحداهن إن عدم استقرار الليرة أرخى بثقله على الداخل أكثر من الخارج، خصوصاً “المقاطيع” اللواتي لا يصل إليهن المصروف من أقاربهنّ.
أما لماذا تحتاج النزيلات إلى مصروف كبير؟ فلأن لا شيء في هذه البلاد يسير كما يجب. صحيح أن هناك “قَرَوانة”، وهي وجبة يومية تصل من سجن رومية، لكنها، بحسب النزيلات، لا تستوفي معايير الجودة المطلوبة. أما القضية الانسانية الملحّة فتكمن في السجن من دون إتمام المحاكمات، بسبب الإضرابات المتتالية للقضاء، والإهمال المتمادي في المؤسسات تزامناً مع استفحال الانهيار.
يبلغ عدد السجينات في “سجن بعبدا للنساء” نحو مئة. عندما تدخل المكان، سرعان ما تشدّ انتباهك صرخة من طفلة رضيعة تبكي للحصول على الطعام، تخال أنها هنا مع زائرين لوالدتها في السجن، لكنّ الصدمة أنها نزيلة بين هذه الجدران الأربعة بعدما قضت أكثر من نصف شهورها التسعة هنا.
“لا غرفة نظيفة مخصّصة للرضيعة، وهي تعاني من مرض الربو”، تقول الشابة العشرينية ديانا في حديث لـ”النهار”، وتضيف: “جميع النزيلات هنا يدخنّ السجائر، وهذا جزء أساسي من تمضية ساعات الفراغ الطويلة”. وتتابع: “الجوّ غير صالح للحياة لجميع المرضى، وإذا مرضتِ، فلا مستشفى يستقبلك”. لم يكن هناك “مكان آمن” لوضع الرضيعة بعد ولادتها غير حضن والدتها السجينة.
نقص في كل شيء
قاطعت الشابة زهراء حديث ديانا ساردة قصتها مع الطبابة: “وقعت على الدرج، خبطت رأسي وركبتي، نمت ثم استفقت وأنا أتقيّأ دماً، طلبت منهم أخذي إلى المستشفى، أجروا اتصالاً مع طوارئ مستشفى حكومي، قالت إدارة المستشفى للسائق: “إن لم تكن تملك المال، فلن نستطيع إدخالها، اصطحبها معك وعودا معاً. وأنا بالتأكيد لا أملك المال الكافي”، ثم علّقت: “هناك امرأة كانت تُحتضر، أبرقوا للمستشفى لكي يستقبلها الساعة 9 صباحاً، وصلت الموافقة الساعة 4 بعد الظهر”.
“تعاني النزيلات من نقص في أدوية الأمراض المزمنة والمياه الساخنة ووسائل التدفئة وغيرها من الحاجيات الأساسية”، تشرح رنا يونس من جمعية “دار الأمل” معاناة النزيلات مع الأزمة الاقتصادية، وخصوصاً أن معظمهن يشترين حاجاتهن من حسابهنّ الشخصي. وتعلّق: “جمعيتنا لديها مكتب دائم للعناية بمشاكل النزيلات، نأتي ببعض المساعدات المادية والعينية من أدوية إلى تكاليف دخول المستشفى إلى مواد التنظيف والعناية بالنظافة الشخصية، إلا أننا لا نستطيع تغطية كافة التكاليف، وخصوصاً في سجن مكتظّ كسجن بعبدا، وتحصل نصف النزيلات فقط على أسرّة وتنام الأخريات على الأرض”. وتضيف: “مثلاً هناك مريضة سرطان، وضعها الصحّي صعب جداً، تصرخ وتئنّ يومياً من الوجع، وحالتها لا تتحمّل البقاء في مثل هذه الأجواء. قدّمت لها إدارة السجن طلباً لإخلاء السبيل، إلا أن القاضي المعنيّ لا يزال يدرس الملف منذ أشهر دون ردّ”.
الجسم القضائي “شبه غائب”
كانت إحدى النزيلات تسرد ما آلت إليه الأمور في السجن، وما إن أتت على ذكر القضاء حتى علت صرخة رفيقاتها جميعاً: “هذه مشكلتنا الوحيدة والأساسية”.
“رحلة المماطلة ووجع القلب تبدأ عندما نصل إلى السجن لأول مرة، فالمحامون يتقاضون مبالغ كبيرة لا تملكها جميع الفتيات، وحدها من تملك المال تستطيع تسليك أمورها”، تقول الموقوفة ربى التي لا يتجاوز عمرها 25 عاماً لـ”النهار”. وتكمل: “والدتي تدفع للمحامي وهي مريضة سرطان وأخي مريض سرطان، المشكلة أنه لا يخبرني بالتهم الموجّهة ضدّي،حضرت أكثر من 10 جلسات ولا تزال التهم مبهمة، وهناك من هنّ في وضع أسوأ من وضعي”.
في الطابق العلوي للسجن، مشغل تتجمّع فيه النزيلات وحولهنّ أدوات التطريز المنوّعة، يصنعن منها منتجات حرفية متنوّعة يبعنها بعضهن لبعض أو للخارج. ويستعملن هذا المشغل أيضاً غرفة للتجميل والاهتمام بمظهرهنّ الخارجي، يحملن الملقط والمرآة والمشط ويعملن على تحسين مظهرن، لعلّهن ينسين بعضاً من الهموم التي تثقل تفكيرهنّ على مدار الساعة.
كانت أماني تجلس في إحدى الزوايا، وهي الموقوفة منذ أكثر من 36 شهراً من دون محاكمة. تلتزم الصمت منذ بداية الدردشة، إلا أن الحديث عن القضاء أثار غضبها: “تأجّلت 6 جلسات لي، وما زلت غير محكومة حتى الآن، الجلسة الأولى تزامنت مع جلسة الاستماع لحاكم المصرف المركزي رياض سلامة – لحسن حظي، الجلسة الثانية تعطلت قبلها الآلات العسكرية، الجلسة الثالثة، أضرب القضاة، الجلسة الرابعة سافر الكاتب، الجلسة الخامسة حصل الزلزال، الجلسة السادسة تُوفيت والدة القاضي المسؤول، وغداً الجلسة السابعة، سأنتظر لمعرفة أي كارثة ستحدث”.
ورداً على سؤال عن مدة التأجيل بين الجلسة والثانية، أجابت: “6 أشهر، علماً بأن محكوميتي كانت ستكون لفترة أقل من ذلك”.
قاطعتها زهراء: “وحتى إن ذهبتِ، فما الفائدة؟ معظم القضاة يسألون عن اسمك ومهنتك. ولا يسمحون لكِ بالتحدّث عن قضيّتك”.
أقدم موقوفة في السجن
سألتها عن اسمها ولماذا تقبع في السجن بلا حكم منذ أكثر من 10 سنوات، فردّت على السؤال بسؤال: “من أنتِ؟ ولماذا تسألين؟ كيف يمكنك مساعدتي؟ بالطبع، لن تستطيعي، سمعت الكثير من الوعود وما زلت على المقعد نفسه منذ سنين…”، ثم صمتت لحظات وقالت بأسى: “أنا إلهام. أقبع هنا منذ 10 سنوات، لم يسألني قاضٍ واحد عن سبب دخولي السجن، في كلّ مرة تؤجّل جلسات الاستماع بحجة مختلفة، والمحامي لا فائدة منه أيضاً، من يأخذ المال لا يعمل، فكيف من تعيّنه الدولة؟”.
“كل ذنبي إني حبيت لبنان”
“هل ذنبي أنني أحببت لبنان كبلدي؟”، هكذا بدأت النزيلة الأردنية إلهام سرد قصتها، تقول إنها دفعت أكثر من 40 ألف دولار لأكثر من 4 محامين حتى الآن، دون نتيجة طبعاً: “الغريق بيتعلق بقشة”، وأضافت: “عندما يعرفون عن وضعي المادي، يبدؤون بتقديم الوعود وسحب المال، كلّهم يقدّمون الوعود نفسها، ابني في سجن حبيش، لا يعرف ما تهمته، وابنتي تدهورت حالتها النفسية، طيب ماذا فعلت؟ لماذا نُعامل هكذا؟”.
يعترف مصدر أمني في حديث لـ”النهار” بالوضع السيّئ الذي بات السجناء والسجينات يعيشون فيه من الطعام والدواء وباقي الظروف الحياتية، موضحاً أن ميزانية السجون في معظم دول العالم تكون منخفضة، فكيف الحال في بلد يُعاني من أزمة حادة كهذه. ويرى أن معالجة قضيّة السجناء يجب أن تنطلق من معالجة الاكتظاظ الكبير في السجون. ويشدد على متابعة أوضاع الطبابة، وعلى دور الجمعيات التي تقدّم مساعدات في هذا السياق.
لا يمكن أن تُختصر معاناة القابعات في السجون ببضعة سطور، فالكلمات لا تستطيع وصف المشاهد كما هي، وإن استطاعت فلن تؤثر هذه الخطابات المكرّرة المملة في حياة من ينتظرن الفرج من لا شيء. بالنسبة إليهن، قد يكون هذا التقرير شأنه شأن وعود المحامين والقضاة، ولكن سنذكّر إن نفعت الذكرى!