ثورة زنازين” تلوح من سجون لبنان
كتبت زيزي اسطفان في “الراي” الكويتية:
في البلد الذي تحوّل سجناً كبيراً يعاني فيه مَن هم خارج الأسوار بقدر مَن هم خلفها، تُنْذِرُ كل أزمة بالتحول كارثة إنسانية تودي به إلى المجهول.
فكيف إذا كان الجوع والمرض واليأس يطرق أبواب مَن لم يعد لديهم شيئاً يخسرونه، المساجين والموقوفون في سجون لبنان التي باتت أشبه بـ«طنجرة ضغط» يمكن أن تنفجر بأي لحظة..
اكتظاظٌ، مرضٌ، غيابٌ للمحاكمات.. خليطٌ متفجر يضاف إليه اليوم الجوع الذي يطرق بابهم مع رفْض متعهدي تأمين المواد الغذائية للسجون الاستمرار بالتزاماتهم نتيجة غياب التمويل.
فهل لبنان على أبواب انتفاضة لسجنائه وهل تفجّر «ثورة الزنازين» إذا حصلت «بلاد الأرز» من الداخل؟
لبنان الذي لم يعد يعرف كيف «يتلطى» من الأزمات ويحْمي رأسه من شظاياها، عاش في الأيام الأخيرة على وقع طبول «حربٍ» إنسانية الملامح لكنها تُنْذِرُ بأوخم العواقب. الجوع فتيلُها أما ضحاياها فهم المساجين والموقوفون في مختلف السجون اللبنانية ونظارات التوقيف.
فالمتعهدون الذين كانوا يزوّدون السجون بالمواد الغذائية قرروا عدم تجديد عقودهم التي انتهت في آخر آذار وتم تمديدها حتى الرابع من نيسان بسبب تأخّر الوزارات المختصة عن دفع مستحقاتهم وسداد قسم منها على سعر صرفٍ لا يتعدى 40000 ليرة فيما هم يشترون كل بضائعهم على سعر صرف الدولار في السوق السوداء.
إنها حلَقة ظُلْم جهنّمي. فمَن يحلّ هذه الإشكالية ويعيد الى أصحاب الحق حقَّهم ويؤمّن لنزلاء السجون أبسط حقوقهم الإنسانية أي الغذاء؟
«الراي» طرحت مشكلة السجون لتفاجأ بأرقام مخيفة وواقع مأسوي هو أبعد وأصعب بكثير من قضية متعهدي الأغذية التي يمكن حلّها باتفاق جديد بين وزارة الداخلية والمالية وبينهم.
بدايةَ، أَبْلَغَنا الحاج أحمد الديراني، وهو صاحب شركة «ديراني غروب» التي تتولى مع بضع شركات أخرى تأمين المواد الغذائية لسجون لبنان المركزية، أي رومية و القبة وزحلة، أن الأمور تحلحلت وأنهم وُعدوا بأن المستحقات التي لهم في ذمة الدولة ستُدفع وستصل سلفة من وزارة المالية تؤمّن تغطية المستحقات حتى نهاية العام الجاري. لكن الأمور حتى اللحظة لا تزال في إطار الوعود على أمل أن تفي الدولة بتعهداتها ويكون لديها حد أدنى من الصدقية: «لا يمكن لأحد أن يتحمل مسؤولية وقف الطعام عن السجناء، فالأمر يهدد بثورة من الداخل لا يمكن التكهن بتداعياتها. وضْع السجناء تعيس جداً وكذلك وضْع السجّانين والقوى الأمنية التي تتولى حراستهم بعدما بات راتب رجُل الأمن لا يتعدى 100 دولار.. مالياً نحن مغبونون لكن إنسانياً نشعر مع السجناء ولا بد من الوصول الى حل وسط. وفي النهاية لبنان كله يعيش في سجن كبير».
المتعهدون إذاً مستعدون لحلحلة الأوضاع إذا استوفوا جزءاً من مستحقاتهم، ولكن هل هذا هو الحل الوحيد لمشكلة السجون التي تعاني اكتظاظاً هائلاً بحيث بات يصعب تأمين الطعام لهذه الأعداد الكبيرة، حتى أن إدارة السجون بدأت تفكر بخفض عدد أرغفة الخبز لكل سجين؟ أم أن أزمة الجوع والطبابة جاهزة لتطلّ برأسها من جديد بعد فترة قصيرة حين ينتهي مفعول الترقيع والحلول المجتزأة؟
«الراي» التقتْ رئيس لجنة السجون في نقابة المحامين المحامي جوزيف عيد، المكلف رسمياً من نقيب المحامين ناضر كسبار، بتولّي التنسيق مع وزارة الداخلية وقوى الأمن الداخلي والذي يتابع عن كثب ومن الداخل قضية السجون وما يرافق دخول المحامين اليها من مسوغات قانونية.
وما كشفه المحامي عيد عن واقع السجون تخطى بمأسويته وسودويته قصة تأمين المواد الغذائية، وقال: «لا شك في أن قضية تموين السجون انعكستْ بشكل سلبي جداً على المساجين وأهلهم. لكن ثمة تطمينات من وزارة الداخلية ووزارة المال ورئيس الحكومة بأن الأمور ستُعالَج وتتم حلحلتها، إذ يستحيل إبقاء السجناء بلا طعام، ولا بد من تأمينه من مصادر أخرى في حال لم يتجاوب المتعهدون. لكن هذا الضغط من المتعهدين ولّد حال ذعرٍ في صفوف المسؤولين الذين سارعوا الى إيجاد حل عن طريق إعطاء سلفة. لكن هذه الأزمة الطارئة ليست إلا جزءاً صغيراً من مأساة السجون في لبنان وهي تضيء بشكل فاضح على واقعها المرير».
ويضيف عيد: «فالسجون تعاني من اكتظاظ رهيب. وسجن رومية المركزي الذي يتسع لـ 1200 سجين في الأصل يضمّ اليوم نحو 4000 سجين، ومثله السجون الباقية. وهذا ما يوجِد حالةً من الفوضى وعدم القدرة على تأهيل المساجين أو حتى تأمين احتياجاتهم. والواقع الذي لا يمكن تصديقه أن عدد المساجين في لبنان اليوم هو 8350 سجيناً يتوزّعون على 25 سجناً و229 نظارة. وهذا الرقم يكشف عن واقع صادم وهو أن 82.5 في المئة من المساجين هم من الموقوفين الذين لم تتم محاكمتهم بعد، وألفين منهم يتوزعون على النظارات المختلفة المخصصة في المبدأ للتوقيف الاحتياطي البسيط فإذا بها تتحول الى سجون دائمة».
هذا الاكتظاظ في السجون وكثرة عدد الموقوفين غير المحكومين ناجم عن بطء سير المحاكمات كما يؤكد المحامي عيد، وكما بات معروفاً من قبل الجميع. فالقضاة أضربوا لعدة أشهر وتلا ذلك إضراب للمُساعِدين القضائيين الذين عادوا إلى التوقف عن العمل قبل أيام.
وثمة الكثير من الحلول التي يمكنها تسريع البت بقضايا الموقوفين لكنها تشهد بطئاً شديداً مثل النظر في إخلاءات السبيل أو إدغام العقوبات أو اعتماد عقوبات بديلة عن السجن والتوقيف في الجنح البسيطة، أو منْع المحاكمة عمن يتبيّن أنه بريء وقضى في السجن عقوبته، وكذلك خفض العقوبة عند مَن يستحقون، وغيرها من الإجراءات القانونية التي تَعتمد على تطبيق أصول المحاكمات الجزائية.
وفي رأي عيد أن التطبيق السليم لهذا القانون يساهم في حلّ مشكلة اكتظاظ السجون وبالتالي حل مشكلة أعداد كبيرة من الموقوفين المَنْسيين الذين لا يُنظر بحالتهم. واليوم هناك 800 طلب إخلاء سبيل بين أيدي القضاء في انتظار البت بها ما يساعد في حل جزء كبير من أزمة السجون.
متعدّدة ومتشعّبةٌ هي أسباب اكتظاظ السجون في لبنان. فإلى جانب بطء العملية القضائية هناك ضعف واضح في الإمكانات. فحتى سوق المَساجين الى المحاكمات بات صعباً ومتقطعاً نظراً الى عدم توافر الوقود لآليات نقل السجناء كما يقول المحامي عيد.
وكذلك أدى التشديد على دخول المحامين الى السجون بسبب التدابير الأمنية الى توقف المحاكمات داخل السجن في رومية مثلاً. هنا لا بد أن يتذكّر العارفون أن مرسوم تنظيم السجون في لبنان الذي يحمل الرقم 14310 والذي صدر في العام 1949 ثم خضع لعدة تعديلات على مر السنين كان من أفضل المراسيم فيما خص تنظيم السجون وتأهيل السجناء، وكان بإمكانه وضْع لبنان في مصاف الدول التي تحترم سجناءها وتقدم لهم أفضل الظروف.
لكن هذا المرسوم لا يُطبَّق اليوم كما يجب، لا بسبب عدم وجود النية لتطبيقه بل لأن الاكتظاظ في السجون يمنع تنفيذ ما فيه من بنود تُطَوِّر السجون وتؤهل السجناء وتؤمّن لهم أفضل الظروف الإنسانية خلف الزنزانة.
أما عدم تطبيقه فيحوّل السجون الى مدرسة للجريمة وكل الموبقات.
يترحّم اللبنانيون على أيام كانوا فيها رواداً في القوانين فإذ بهم اليوم يشحدون حبة الدواء لمساجينهم. فالواقع الطبي في السجون خطر ومتفاقم جداً كما يروي لـ «الراي» المحامي جوزيف عيد. عدد الأطباء الى تضاؤل وكذلك الممرضون. ففي سجن رومية هناك طبيبان فقط اليوم يهتمان بنحو 4000 سجين. والأطباء باتوا يتهربون من وظيفة داخل السجن لا تؤمّن لهم مردوداً مادياً لائقاً، والدولة غير قادرة على التعاقد مع أطباء جدد. يضاف الى ذلك نقص حاد في تأمين الأدوية للمساجين بسبب ارتفاع أسعارها وعدم توافرها.
وحتى المستشفيات لم تعد ترضى باستقبال السجناء لأسباب مالية معروفة. وصار تشخيص الأمراض يتم وفق تقدير الطبيب من دون وجود آلات تسمح بالتشخيص الدقيق.
وبنتيجة هذه العوامل الصحية والطبية، صارت السجون تشهد حالات صحية مؤسفة، ولم تَعُد حتى المنظمات الإنسانية المحلية والعالمية قادرة على التعامل مع هذا الوضع الصحي الخطير وتأمين المستلزمات الطبية والدوائية التي يحتاجها المساجين المرضى: «هو سباق بين العلاج والموت»، يقول عيد «وحله يتطلب تضافر الجهود إضافة الى جعل أطباء السجون يتبعون لوزارة الصحة فتكون مسؤولة عنهم بدل أن يكون تعاقدهم مع قوى الأمن الداخلي ووزارة الداخلية.» وهي حلقة مفرغة يدور فيها لبنان بكل مؤسساته وسجونه، أساسها نقص الموارد المالية التي باتت تتهدد لا حياة السجناء فقط بل حياة الأطباء والممرضين ورجال قوى الأمن ومتعهدي التغذية وصولاً الى القضاة ومساعديهم…
واقع صحي مخيف يضاف إليه اليوم واقع غذائي ضاغط فطعام السجين الذين كان رغم خضوعه للمعايير الصحية والكشوفات المخبرية ومعايير النوعية يُعتبر درجة وسطاً في السابق، كيف سيصبح اليوم مع ضعف الإمكانات المالية لتأمين الوجبات اليومية، وضعف قدرة الأهل على توفير الطعام لأبنائهم المساجين أو منْعهم من ذلك لأسباب أمنية؟
يقول الحاج أحمد ديراني: «لا خوف اليوم من تأمين المستلزمات الضرورية لتوفير الوجبات الثلاث التي تحدّدها إدارة السجون. والنوعية لا تزال مقبولة جداً والفحوص تجرى عليها دائماً».
ولكن في ظل ارتفاع هائل في أسعار الحبوب والبقوليات مثل الحمص والفاصوليا والعدس والأرز، كما في سعر الحليب والبيض والسكر، هل لا يزال من الممكن تأمين تغذية ملائمة لسجناء مهدَّدين بفقدان أبسط أسس الكرامة الإنسانية؟ هل يتحوّل كل سجين الى مشروع ضحية لغياب الدواء والاستشفاء؟
أسئلة قد لا تجد الإجابة عنها في وقت عاجل على أمل ألا يكون انفجارها انفجاراً للبنان القابع خلف قضبان الانهيار الكبير.