أزمة الخَيار بين غادة عون وطارق البيطار
كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
ليست المرّة الأولى التي ينقسم فيها القضاء في لبنان. حصل الإنقسام على عهد حكومة العماد ميشال عون العسكرية وبعد انتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة الرئيس سليم الحص وتعيين النائب إدمون رزق وزيراً للعدل بينما كان في المقلب الآخر اللواء عصام أبو جمرا وزير العدل في حكومة عون التي كلّفت الضابط فريد بو مرعي متابعة شؤون الوزارة من بين الضباط الذين كلّفوا بالإشراف على الوزارات كافة.
عندما عيِّن القاضي سهيل عبود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى كان ثمّة رهان لدى العهد العوني على أن يكون منفِّذاً لسياسته داخل القضاء. ولكن عندما أصدر عبود مع مجلس القضاء الأعلى التشكيلات القضائية أوقفها الرئيس عون لأنّه اعتبرها غير مراعية لوحدة المعايير، بينما كان السبب الرئيس هو الإبقاء على القاضية غادة عون كنائب عام استئنافي في جبل لبنان. ونتيجة ذلك تجمّدت التشكيلات. وبدل أن تكون بداية انطلاقة جديدة للعمل القضائي كانت بداية الإنحدار نحو جهنّم. فإذا كان الرئيس الأول قد بحث عن بداية للإستقلالية في العمل القضائي بدأت عملية الإنقضاض عليه وتطويقه بعد الفشل في تطويعه.
ولذلك ومن باب الحصار والعودة إلى الإمساك بالقرار عيّن مجلس الوزراء أربعة قضاة في مجلس القضاء الأعلى يمون عليهم العهد وحلفاؤه ليكون هذا التعيين بمثابة انقلاب داخل الجسم القضائي بدأت معالمه تظهر بعد الصراع على حصانة المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار. دخل الصراع إلى داخل مجلس القضاء الأعلى فانقسم لتنقسم الصورة أيضاً داخل القضاء بين مستويين من العمل والممارسة: طريقة عمل القاضي طارق البيطار وطريقة عمل القاضية غادة عون.
يعتبر البعض أنّ مسؤولية الخروج من هذا المستنقع ومن هذا الصراع تقع على رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود. ولكن في الواقع مسؤولية عبود محدودة. ذلك أنّ القرار يعود حكماً إلى مجلس القضاء الأعلى الذي يرأسه عبود ولا يتمتّع بسلطة القرار فيه. لأنّ القرارات خاضعة للتصويت ولاكتمال النصاب الذي يتطلّب حضور ستة أعضاء من أصل عشرة يشكّلون الأكثرية التي أريد من خلالها شلّ عبود وفرض القرارات عليه بموازاة الحملات التي يتعرّض لها مع القاضي البيطار.
على رغم ذلك يعتصم عبود والبيطار بالصمت. لا يردّ عبود على الحملات الجائرة التي يتعرّض لها ومن ضمن أهدافها حمله على الإستقالة، بينما يعتبر أنّه باقٍ في موقعه على رغم كل شيء وأنّه لن يوافق على كل ما يخرج عن منطق العدالة والقانون والمؤسسات. وعلى رغم عدم تمتّعه بأي حماية أمنية، فهو لا يتراجع عن السقف الذي وضعه لنفسه منذ تبوّأ هذا الموقع بحيث يمكنه في أسوأ الأحوال أن يحافظ على استقلاليته من دون أن يقبل بأن تُسجَّل عليه نقطة سلبية واحدة لجهة تنازله عن دوره وقبوله بتجاوز هذا الدور والخضوع للتدخّلات التي يعتبر أنّها تجاوز للقانون والعدالة وروح الحق.
ولذلك يهمّه أن يبقى صامداً في وجه العاصفة والحصار الذي بدأ مع رفض عون التشكيلات القضائية، واستُكمِل برفض وزير المالية يوسف الخليل توقيع مرسوم تشكيلات محكمة التمييز الموجود عنده منذ آذار 2022، وهو المرسوم الذي كان ينتظر من خلاله اكتمال هيئة محكمة التمييز وتأمين آلية البتّ بطلبات ردّ المحقق العدلي طارق البيطار قبل أن ينتفض ويستعيد صلاحياته بعيداً عن هذا المسار المقفل على قاعدة أنّ المحقق العدلي لا يمكن ردّه.
كعبود يعتصم البيطار بالصمت ولا يردّ على الحملات والإتهامات والتخوين والتهديدات التي تطاول عائلته وحياته. وهو يدرك أنّ ثمّة محاولات لاستدراجه إلى التحدّث عن بعض ما تكوّن لديه من معطيات في الملف لتبرير الإدّعاءات التي يقوم بها والدفاع عن التحقيق. ولكنّه لا يفعل وأكثر ما يصرح به أنّه متمسّك بموقعه ولن يتخلّى عن التحقيق رغم تهديده وتقديم الدعاوى ضدّه بهدف وقف التحقيق وعدم تعاون الضابطة العدلية معه وادعاء مدعي عام التمييز عليه وكأنّه يخضع للمحاكمة من المتّهمين الذي يحاكمهم.
على المقلب الآخر ترفض القاضية غادة عون أن تتبلّغ أي طلب لردّها مع أنها لا تتمتّع بصلاحيات مماثلة لما يتمتّع به المحقق العدلي. وهي تعتمد الإثارة الشعبية والقضائية في تحريك الملفات وتستعرض في المداهمات ولا تتوانى عن الظهور الإعلامي بمساندة من «التيار الوطني الحر» الذي يواكبها، وهي متّهمة من منتقديها بمخالفة الأصول والعمل خارج أصول ما يفرضه عليها العمل القضائي، وتستعين بمن هم خارج الجسم القضائي. وهي تستخدم وسائل التواصل الإجتماعي وتُكثِر من التغريدات وتهاجم في معرض الدفاع عمّا تعتبر أنّه من حقّها أن تعمله. وهي على رغم مثولها أمام مجلس القضاء الأعلى وإحالتها إلى التفتيش القضائي مستمرة في العمل قبل أن يصل الأمر إلى استصدار رئيس حكومة تصريف الأعمال قراراً بلّغه إلى وزير الداخلية لمنع أجهزة الوزارة الأمنية من تنفيذ قراراتها ومواكبتها بعدما كانت تعتمد على مساندة من جهاز أمن الدولة.
ما يحصل اليوم في أروقة قصر العدل ليس إلا انهياراً للعدالة عبر إقامة خطوط فصل ومتاريس بين القضاة والأجهزة الأمنية والسياسية والقضائية. صورة تعكس الواقع السياسي لا خروج منها إلا بتغيير الحكم والممسكين به لوضع حد لعملية التدمير الثاني التي يتعرّض لها قصر العدل بالبشر قبل الحجر.